فصل: باب من تفسير الهمز:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.باب زيادة: {مِنُ}:

أما قوله: {يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائهَا} فدخلت فيه مِنْ كنحو ما تقول في الكلام: أهلْ البَصْرة يأكلون من البُرِّ والشَعير وتقول: ذهبتُ فَأصَبْتُ من الطَّعام تريد شَيْئا ولم تذكر الشيء. وكذلك: {يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ} شيئا، ولم يذكر الشيء وإن شئت جعلته على قولك: ما رأيت مِنْ أَحَدٍ تريد: ما رأيتُ أحَدًا وهلْ جاءك مِنْ رَجْلٍ تريد هل جاءك رَجُل. فان قلت: إنما يكون هذا في النفي والاستفهام فقد جاء في غير ذلك، قال: {وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ} فهذا ليس باستفهام ولا نفي. وتقول: زيدْ مِنْ أَفْضَلِها تريد: هو أفضلها، وتقول العرب: قد كانَ مِنْ حَدِيثٍ فَخَلِّ عَنّي حتّى أذهب يريدون: قَدْ كانَ حَديث. ونظيره قولهم: هَلْ لَكَ في كذا وكَذا ولا يقولون: حاجَةُ، و: لا عَلَيْكَ يريدون: لا بَأَسَ عَلَيْكَ.
وأما قوله: {اهْبِطُواْ مِصْرًا} وقال: {ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ} فزعم بعض الناس أنه يعني فيهما جميعا {مِصْر} بعينها، ولكن ما كان من اسم مؤنث على هذا النحو هِنْد وجُمْل فمن العرب من يصرفه ومنهم من لا يصرفه. وقال بعضهم: أما التي في يوسف فيعني بها {مِصْرَ} بعينها، والتي في البقرة يعني بها مِصْرًا من الأمصار.
وأما قوله: {وَبَاءُو بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ} يقول: رَجَعُوا بِهِ أي صار عليهم، وتقول: باء بِذَنْبِهِ يَبُوءُ بَوْءًا. وقال: {إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} مثله.

.باب من تفسير الهمز:

أما قوله: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} و{وَيَقْتُلُونَ الأَنْبِيَاءَ} كل ذلك جماعة العرب تقوله.
ومنهم من يقول: {النُّبَاءَ} أولئك الذين يهمزون النَبِئ فيجعلونه مثل عَريف وعُرَفاء.
والذين لم يهمزوه جعلوه مثل بنات الياء فصار مثل وَصِيّ وأَوْصِياء ويقولون ايضًا: هُمْ وَصِيُّونَ. وذلك أن العرب تحوّل الشيء من الهمزة حتى يصير كبنات الياء، يجتمعون على ترك همزة نحو المِنْسأَةِ ولا يكاد أحد يهمزها إلا في القرآن فان أكثرهم قرأها بالهمز وبها نقرأ، وهي من نَسَأْتُ. وجاء ما كان من رَأَيْتُ على يَفْعَلُ أو تَفْعَلُ أو نَفْعَلُ أو أَفْعَلُ غير مهموز، وذلك أن الحرف الذي كان قبل الهمزة ساكن، فحذفت الهمزة وحرك الحرف الذي قبلها بحركتها كما تقول: مَنَ ابوك. قال: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} وقال: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} وقال: {إِنَّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ} وقال: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}. واما قوله: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ} و: {أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى} وما كان من أَرَأَيْتَ في هذا المعنى ففيه لغتان، منهم من يهمز ومنهم من يقول: أَريْتَ. وإنما يفعل هذا في أَرَأَيْتَ هذه التي وضعت للاستفهام لكثرتها. فأما أَرأَيْتَ زَيْدًا إذا أردت أَبْصَرْتَ زَيَدًا فلا يتكلم بها إلاّ مهموزة أو مخففة. ولا يكاد يقال: أَرَيْتَ لأَنَّ تلك كثرت في الكلام فحذفت كما حذفت في أَمَانَّه ظريف يريدون: أَما إِنَّه ظَريف [ف] يحذفون ويقولون أيضًا لَهِنَّكَ لَظَريف يريدون: لإنَّكَ لَظَريف. ولكن الهمزة حذفت كما حذفوا في قولهم: من البسيط وهو الشاهد الحادي والثمانون:
لاهِ ابنُ عَمِّكَ لا أَفْضَلْتَ في حَسَبٍ ** عَنّي وَلا أَنَتَ دَيّاني فَتَخْزُوني

وقال الشاعر من الكامل وهو الشاهد الثاني والثمانون:
أَرأيْتَ إنْ أَهْلَكْتُ مالِيَ كُلَّهُ ** وَتَرَكْتُ مَا لَكَ فيمَ أَنْتَ تَلُومُ

فَهَمَز وقال الآخر: من المتقارب وهو الشاهد الثالث والثمانون:
ارَيْتَ امْرَءًا كنتُ لَمْ أَبْلُهُ ** أَتَانِيْ وَقالَ اتَّخِذْنِي خَلِيلا

فلم يهمز. وقال من الكامل وهو الشاهد الرابع والثمانون:
يا خاتَمَ النُّبَاءِ إِنَّكَ مُرْسَل ** بِالحَقِّ كُلُّ هُدَى السَّبيلِ هُداكا

واما قوله: {بِمَا عَصَوْا} فجعله اسما هنا كالعصيان يريد: بعصيانهم، فجعل ما وعَصَوْا اسما.
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا ءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ} فهذا على الكلام الأول. يقول: اذُكروا إذ أَخَذْنا ميثاقَكُم وَرَفَعَنا فَوقَكُم الطورَ خُذُوا يقول: فَقلنا لَكُم: {خُذُوا}. كما تقول: أَوْحَيتُ إليْهِ: قُمْ كأنه يقول: أَوْحَيْتُ إلَيْهِ فقلتُ له: قُمْ وكان في قولك [46]: أَوْحَيْتُ إلَيْهِ دليل على أَنَّكَ قد قلت له.
{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ}.
أما قوله: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} يقول: ولَقَد عَرَفْتُمْ كما تقول: لقد علِمت زَيْدًا وَلَمْ أَكُنْ أَعلَمُه.
وقال: {وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} يقول: يَعْرِفُهُم. وقال: {لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} أي: لا تَعْرِفُهم نَحْنُ نَعْرِفهُم. واذا أردت العلم الآخر قلت: قَدْ عَلِمْتُ زَيْدًا ظريفًا لأنك تحدث عن ظرفه. فلو قلت: قدْ عَلِمْتُ زَيْدًا لم يكن كلاما.
وأما قوله: {كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} فلانك تقول: خَسَأْتُهُ فَخَسِئ يَخْسَأُ خَسْأً شديدا فهُوَ خَاسِئ وهُمْ خاسِئُون.
{فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ}.
أما قوله: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا} فتكون على القردة، وتكون على العقوبة التي نزلت بهم فلذلك أُنّثَت.
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}.
أما قوله: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} فمن العرب والقراء من يثقله، ومنهم من يخففه وزعم عيسى بن عمر أنّ كلَ اسمٍ على ثلاثة أحرف أَوَّلُهُ مَضْموم فمن العرب من من يثقله ومنهم من يخففه نحو: اليُسُر واليُسْر، والعُسُر والعُسْر، والرُحُم والرُحْم.
وقال بعضهم: {عُذْرًا} خفيفة: {أونُذُرًا} مثقلة، وهي كثيرة وبها نقرأ. وهذه اللغة التي ذكرها عيسى بن عمر تحرك أيضًا ثانية بالضم.
{قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَة لاَّ فَارِض وَلاَ بِكْر عَوَان بَيْنَ ذلك فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ}.
أما قوله: {إِنَّهَا بَقَرَة لاَّ فَارِض وَلاَ بِكْر عَوَان} فارتفع ولم يصر نصبا كما ينتصب النفي لأن هذه صفة في المعنى للبقرة. والنفي المنصوب لا يكون صفة من صفتها، إنما هو اسم متبدأ وخبره مضمر، وهذا مثل قولك: عبدُ اللّهُ لا قائم ولا قاعد أدخلت لا للمعنى وتركت الإعراب على حاله لو لم يكن فيه لا.
{قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَة صَفْرَاءُ فَاقِع لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ}.
أماقوله: {بَقَرَة صَفْرَاءُ فَاقِع} فالفاقِعُ: الشديد الصفرة. ويقال: أَبْيضُ يَقَق: أي: شديدُ البياض، ولِهاق ولَهَق ولَهاق، وأَخَضَرُ ناضِر وأَحْمَرُ قانِئ وناصِع وفاقِم. ويقال: قَدْ قَنَأَتْ لِحْيَتُهُ فَهي تَقْنَأُ قُنُوءا أي: احمّرت. قال الشاعر: من الكامل وهو الشاهد الخامس والثمانون:
كَما قَنَأَتْ أَنامِلُ صاحِبِ الكَرْمِ

وقاطِفُ الكَرْمِ. وقال آخر: من الكامل وهو الشاهد السادس والثمانون:
مِنْ خَمِرّ ذي نَطَفٍ أَغَنَّ كَأنَّما ** قَنَأَتْ أَنامِلُهُ مِن الفِرْصادِ

{قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ}.
أما قوله: {إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} فجعل {البَقَر} مذكرا مثل التَمْر والبُسْر كما تقول: إنَّ زيدًا تَكَلَم يا فَتَى وإن شئت قلت يَشّابهُ وهي قراءة مجاهد. ذكّر {البقر} يريد: {يَتَشابَهُ} ثم أدغم التاء في الشين. ومن أَنَّث البقَر قال: {تَشّابَهُ} فادغم، وإن شاء حذف التاء الأخرة ورفع كما تقول إنَّ هذِهِ تَكَلَّمُ يا فَتِى لأنها في تَتَشابَهُ احداهما تاء تَفْعَلُ والاخرى التي في تَشابَهَتْ فهو في التأنيث معناه تَفْعَلُ. وفي التذكير معناه فَعَلَ وفَعَلَ أبدا مفتوح كما ذكرت لك والتاء محذوفة إذا أردت التأنيث لأنك تريد تَشابَهَتْ فهي تَتشابهُ وكذلك كل ما كان من نحو البَقَرِ ليس بين الواحد والجماعة فيه إلا الهاء، فمن العرب من يذكره ومنهم من يؤنثه، ومنهم من يقول: هي البُرُّ والشعير وقال: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْع نَّضِيد} فأنث على تلك اللغة وقال: باسقات فجمع لأن المعنى جماعة. وقال الله جل ثناؤه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} فذكر في لغة من يذكر وقال: {وَيُنْشِئ السَّحَابَ الثِّقَالَ} فجمع على المعنى لأن المعنى معنى سحابات. وقال: {وَمِنْهُمْ مَّن يَنْظُرُ إِلَيْكَ} وقال: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} على المعنى واللفظ.
وقد قال بعضهم: {إنَّ الباقِرُ} مثل الجامِل يعني البَقَرَ والجِمالَ قال الشاعر: من الكامل وهو الشاهد السابع والثمانون:
مالِي رأيتُكَ بعد أَهْلِكَ مُوحِشا ** خَلِقًا كَحَوْضِ الباقِرِ المُتَهَدِّمِ

وقال: من الطويل وهو الشاهد الثامن والثمانون.
فَإِنْ تَكُ ذا شاءٍ كَثِيرٍ فإنَّهُمْ ** ذَوُو جامِلٍ لا يَهْدَأُ اللَّيْلَ سامِرُهُ

وأما قوله: {إِنَّهَا بَقَرَة لاَّ ذَلُول تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَة} [71] مسلمة على إنَّها بَقَرَة مُسَلَّمة.
{قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَة لاَّ ذَلُول تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَة لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} {لاَّ شِيَةَ فِيهَا} يقول: لا وَشْيَ فيها من وَشَيْتُ شِيَةً كما تقول: وَدَيْتُه دِيَةً ووَعَدْتُهُ عِدَةً. واذا استأنفت ألآن قطعت الألفين جميعا لأن الألِفَ الأولى مثل ألف الرَّجل وتلْك تُقطع إذا استُؤنفت، والأُخرى همزة ثابتة تقول ألآن فتقطع ألف الوصل، ومنهم من يذهبها ويثبت الواو التي في قَالُوا لأنَّه إنَّما كان يذهبها لسكون اللام، واللام قد تحرّكت لأنَّه قد حوّل عليها حركة الهمزة.
{وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِج مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}.
أما قوله: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} فإنما هي فَتَدارَأْتُم ولكن التاء تدغم احيانًا كذا في الدال لأن مخرجها من مخرجها. فلما أدغمت فيها حوّلت فجعلت دالا مثلها، وسكنّت فجعلوا الفًا قبلها حتى يصلوا إلى الكلام بها كما قالوا: اضرْب فألحقوا الألف حين سكنت الضاد. إلا ترى إنك إذا استأنفت قلت ادّارأتم ومثلها: {يَذَّكَّرُونَ} و: {تَذَّكَّرُونَ} و{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ الْقَوْلَ} ومثله في القرآن كثير. وإنما هو يَتدَبَّرون فأدغمت التاء في الدال لأن التاء قريبة المخرج من الدال، مخرج الدال بطرف اللسان وأطراف الثنيتين ومخرج التاء بطرف اللسان وأصول الثنيتين. فكل ما قرب مخرجه فافعل به هذا ولا تقل في يَتَنَزَّلون: يَنّزَّلون لأن النون ليست من حروف الثنايا كالتاء.
{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذلك فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.
قال: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} وليس قوله: {أَوْ أَشَدُّ} كقولك: هُوَ زيد أو عمرو إنّما هذه: {أَوْ} التي في معنى الواو، نحو قولك: نَحْنُ نأكُل البُرَّ أَوْ الشَعير أو الأُرُزَّ، كلَّ هذا نَأْكُلُ ف {أَشَدُّ} ترفع على خبر المبتدأ. وإنما هو وهي أشدُّ قَسْوَةً وقال بعضهم: {فَهْيَ كالحِجارَةِ} فأسكن الهاء وبعضهم يكسرها. وذلك أن لغة العرب في هيَ وهَو ولام الأمر إذا كان قبلهن واو أو فاء أسكنوا أوائلهن. ومنهم من يدعها. قال: {وَهُوَ اللَّهُ لا اله إِلاَّ هُوَ} وقال: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}. وقال: {وَلْيتوبوا} وقف وكسر. وقال: {فَلْيَعْبُدُواْ}. وقف وكسر.

.باب إِنَّ وأَنَّ:

قال: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ} فهذه اللاّم لام التوكيد وهي منصوبة تقع على الاسم الذي تقع عليه إنَّ إذا كان بينها وبين إِنَّ حشو نحو هذا. وهو مثل: إنَّ في الدارِ لَزَيْدًا. وتقع أيضًا في خبر إنَّ وتصرف إِنَّ إلى الابتداء، تقول: أَشْهَدُ إنَّهُ لَظَريف قال الله عزَّ وجلِ: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} وقال: {أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِير} وهذا لو لم تكن فيه اللام كان أَنَّ رَبَّهُمْ لأن أنَّ الثقيلة إذا كانت هي وما عملت فيه بمنزلة ذاك أوْ بمنزلة اسم فهي أبدا أَنَّ مفتوحة.
وإنْ لم يحسن مكانها وما عملت فيه اسم فهي إنَّ على الابتداء. ألا ترى إلى قوله: {اذْكُرُواْ نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} يقول: اذْكُرُوا هذا وقال: {فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ} لأنه يحسن في مكانه لولا ذاكَ وكل ما حسن فيه ذاك أنْ تجعله مكان أنَّ وما عملت فيه فهو أَنَّ. واذا قلت: {يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} لم يحسن أَنْ تقول: يَعْلَم لَذالِكَ. فان قلت: اِطْرح اللام أَيضًا وقل: يُعْلَمُ ذَاكَ فاللام ليست مما عملت فيه إِنّ.
وأما قوله: {إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} فلم تنكسر هذه من أجل اللام ولو لم تكن فيها لكانت إنَّ أيْضًا لأَنَّهُ لا يحسن أَنْ تقول: ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إلاّ ذَاكَ وذاك هو القصة.
قال الشاعر: من المنسرح وهو الشاهد التاسع والثمانون:
ما أَعْطيانِي وَلا سَألْتُهُما ** إلاّ وإني لَحاجِزِي كَرَمي

فلو أُلْقِيَتْ من هذه اللامَ أيضا لكانت أَن.
وقال: {ذالِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ} كأنه قال: ذاكَ الأمْر وهذا قوله: {وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ} تقع في مكانه هذا.
وقال: {ذالِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} كأنه على جواب من قال: ما الأَمْرُ؟ أو نحو ذلك فيقول للذين يسألون: ذلك م... كأنه قال: ذلِكُمْ الأمرُ وأَنَّ اللّهَ موهنُ كيدِ الكافرين فحسن أن يقول: ذلك م وهذا. وتضمر الخبر أو تجعله خبر مضمر. وقال: {إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى} {وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى} لأنه يجوز أن تقول: إنَّ لَكَ ذاكَ وهذا وهذه الثلاثة الأحرفُ يجوز فيها كسر إِنَّ على الابتداء.: {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ} فيجوز أن تقول: فنادته الملائكة بِذاكَ وإن شئت رفعته على الحكاية كأنه يقول: فنادَتْهُ الملائكةُ فَقالَتْ: إِنَّ اللّهُ يُبَشِّرُكَ لأنَّ كُلَّ شيء بعدَ القولِ حكاية، تقول: قُلْتُ: عبدُ اللّهِ مُنْطَلِق وقلت: إنَّ عبدَ اللّهِ زيدًا مُنْطَلِق إلاَّ في لُغَةِ من أعمل القول من العرب كعمل الظن فذاك ينبغي له أنْ يفتح أَنَّ. وقال: {إِنَّ هَاذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} فيزعمون أنَّ هذا ولأنَّ هذهِ أمَّتَكُم أُمَّة واحدة وَأَنَا رَبُّكُّمْ فَاتَّقُونِ يقول: فَاتَّقُون لأَنَّ هذِهِ أُمَّتَكُمْ وهذا يحسن فيه كذاك، فان قلت: كيف تلحق اللام ولم تكن في الكلام. فان طرح اللام واشباهها من حروف الجرّ من أَنَّ حسن ألا تراه يقول: أَشْهد أَنَّك صادِق وإنَّما هو أشهد على ذلك. وقال: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} يقول: فلا تدعوا مع الله أحدا لأَنَّ المساجدَ لله، وفي هذا الإعراب ضعف، لأنه عمل فيه ما بعده، أضافه إليه بحرف الجر. ولو قلت أنّكَ صالِح بَلَغَنِي لم يجز، وإن جاز في ذلك. لأنَّ حرف الجر لما تقدم ضميره قوي. وقد قرئ مكسورا. قال بعضهم: إنَّما هذا على: {أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَر مِّنَ الْجِنِّ} وأُوحِيَ إليَّ أَنَّ المَساجِدَ لِلّهِ وأُوْحِي إليَّ أَنهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللّهِ. وقد قرئ: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} ففتح كل أَنْ يجوز فيه على الوحي.
وقال بعضهم: {وَإِنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا} فكسروها من قول الجن. فلما صار بعد القول صار حكاية وكذاك ما بعده مما هو من كلام الجن.
وأما إنَّما فإذا حسن مكانها أَنَّ فتحتها، واذا لم تحسن كَسَرْتَها. قال: {إِنَّمَا أَنَاْ بَشَر مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا الهكُمْ اله وَاحِد} فالأخرة يحسن مكانها أَنَّ فتقول: يُوحى إليَّ أَنَّ إلهَكُم إله واحد قال الشاعر: من الطويل وهو الشاهد التسعون:
أرانِي وَلا كُفْرانَ لِلّهِ إنَّما ** أُواخِي من الأقْوامِ كُلَّ بَخِيلِ

لأنَّهُ لا يَحْسُنُ ها هُنا أَنَّ فلو قلت: أَراني أنما أواخي من الأقْوام لم يحسن. وقال: من الخفيف وهو الشاهد الحادي والتسعون:
أَبْلِغ الحارثَ بنَ ظالِمِ المُو ** عِدِ والناذِرَ النُّذُورَ عَلَيّا

أَنَّما تَقْتُلُ النِّيامَ وَلا تَقْـ ** تُلُ يَقْظانَ ذا سِلاحٍ كَمِيّا

فحسن أن تقول: أَنَّكَ تَقْتُلُ النِّيام. وأَمَّا قوله عز وجل: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظامًا أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ} فالآخرةُ بَدَل من الأُولى.
وَأمّا إنْ الخفيفة فتكون في معنى ما كقول الله عز وجل: {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ} أيْ: ما الكافرون. وقال: {إِن كَانَ لِلرَّحْمَانِ وَلَد} أيْ: ما كان للرحمن ولد: {فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} مِنْ هذهِ الامةِ للرَّحْمن، بِنَفْيِ الوَلَدِ عَنْهُ.
أَي: أَنا أَوَّلُ العابِدِينَ بأَنَّهُ ليْسَ للرحمن وَلَد. وقال بعضُهُمُ: {فَأَنا أَوَّلُ العَبِدِين} يقول: أَنا أَوَّلُ مَنْ يَغْضَبُ من ادّعائِكُمْ لِلّهِ وَلدا.
ويقول: عَبِدَ يَعْبَدُ عَبَدا أي: غَضِبَ. وقال: {وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلًا} فهي مكسورة أبدا إذا كانت في معنى ما وكذلك: {وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ} فإنْ بمنزلة ما، وما التي قبلها بمنزلة الذي. ويكون للمجازاة نحو قوله: {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} {وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ}. وتزاد إنْ مَع ما، يقولون: ما إنْ كانَ كَذا وَكَذا أي: ما كانَ كَذَا وَكَذا، و: ما إنْ هذا زَيْد. ولكنها تغير ما فلا يُنْصَبُ بِهَا الخبر. وقال الشاعر: من الوافر وهو الشاهد الثاني والتسعون:
وما إنْ طِبْنا جُبْن وَلَكِنْ ** مَنايانا وَطُعْمَةُ آخَرِينا

وتكون خفيفة في معنى الثقيلة وهي مكسورة ولا تكون إلاَّ وفي خبرها اللام، يقولون: إنْ زَيْد لَمنطلِق ولا يقولونه بغير لام مخافة أن تلتبس بالتي معناها ما. وقد زعموا أن بعضهم يقول: إنْ زيدًا لمَنُْطَلِق يعملها على المعنى وهي مثل: {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظ} يقرأ بالنصب والرفع وما زيادة للتوكيد، واللام زيادة للتوكيد وهي التي في قوله: {وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ} ولكنها إنما وقعت على الفعل حين خففت كما تقع لكنْ على الفعل إذا خففت. ألا ترى أنك تقول: لكن قد قال ذاك زيد. ولم يُعَرُّوها من اللام في قوله: {وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ} وعلى هذه اللغة فيما نرى- والله أعلم-: {إِنْ هَاذَانِ لَسَاحِرَانِ} وقد شددها قوم فقالوا: {إنّ هذانِ} وهذا لا يكاد يعرف إلا أنهم يزعمون أن بلحارث بن كعب يجعلون الياء في أشباه هذا ألفا فيقولون: رأيت أخواك ورأيت الرجلان وأوضعته علاه وذهبت إلاهُ فزعموا أنه على هذه اللغة بالتثقيل تقرأ. وزعم أبو زيد أنه سمع أعرابيًا فصيحا من بلحارث يقول: ضَرَبْتُ يَداهُ ووضعته علاه يريد: يدَيْه وَعَلَيهِ. وقال بعضهم: {إنَّ هذَيْنِ لَساحِران} وذلك خلاف الكتاب. قال الشاعر: من الرجز وهو الشاهد الثالث والتسعون:
طاروا عليهن فَشُل عَلاها ** واشْدُدُ بمثْنى حَقبٍ حَقْواها

ناجَيَةً وناجِيًا أَباها.
وأَمَّا أَنْ الخفيفة فتكون زائدةً مع فَلمَّا ولَمّا قال: {فَلَمَّا أَن جَاءَ الْبَشِيرُ} وإنما هي فَلَمَّا جاء البَشِير وقال: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا} يقول: ولَمّا جَاءَتْ وتزاد أيضًا مع لَوْ يقولون: أَنْ لَوْ جِئْتني كانَ خيرًا لك يقول: لَوْ جِئْتَني. وتكون في معنى أَي قال: {وَانطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُواْ} يقول: أيْ امشوا. وتكون خفيفة في معنى الثقيلة في مثل قوله: {أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ} و: {أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ} على قولك أَنْهُ لَعْنَةُ اللّهِ. وأَنْهُ الحَمْدُ لِلّهِ. وهذه بمنزلة قوله: {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا} و{وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَة} ولكن هذه إذا خففت وهي إلى جنب الفعل لم يحسن إلا أن معها لا حتى تكون عوضا من ذهاب التثقيل والاضمار. ولا تعوض لا في قوله: {أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ} لأنها لا تكون، وهي خفيفة، عاملة في الاسم. وعوّضتها لا إذا كانت مع الفعل لأنهم أرادوا أن يبيّنوا أنها لا تعمل في هذا المكان وأنها ثقيلة في المعنى. وتكون أنْ الخفيفة تعمل في الفعل وتكون هي والفعل اسما للمصدر، نحو قوله: {عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ} إنما هي عَلى تسويةِ بِنَانِهِ.
{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ}.